فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

جاء في القصص أنه كان ابن عمِّ موسى، وكان من أعبد بني إسرائيل، وكان قد اعتزل الناسَ، وانفرد في صومعته يتعبَّد، فتصوَّر له إبليسُ في صورة بَشَرٍ، وأخذ في الظاهر يتعبَّدُ معه في صومعته حتى تعجَّب قارونُ من كثرة عبادته، فقال له يوماً‏:‏ لسنا في شيء؛ عيونُنا على أيدي الناسِ حتى يدفعوا إلينا شيئاً هو ضرورتنا، ولا بُدَّ لنا من أَخْذِه، فقال له قارون‏:‏ وكيف يجب أن نفعلَه‏؟‏

فقال له‏:‏ أن ندخل في الأسبوع يوماً السوق، ونكتسب، وننفق ذلك القَدْرَ في الأسبوع، فأجابه إليه‏.‏ فكانا يحضران السوق في الأسبوع يوماً، ثم قال له‏:‏ لستُ أنا وأنت في شيء، فقال‏:‏ وما الذي يجب أن نعمله‏؟‏

فقال له‏:‏ نكتسب في الأسبوع يوماً لأنفسنا، ويوماً نكتسب ونتصدَّق به، فأجابه إليه‏.‏ ثم قال له يوماً آخر‏:‏ لسنا في شيء، فقال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ إِنْ مرضنا أو وقع لنا شغل لا نملك قوتَ يومٍ، فقال‏:‏ وما نفعل‏؟‏

قال‏:‏ نكتسب في الأسبوع ثلاثة أيام؛ يوماً للنفقة ويوماً للصدقة ويوماً للإدخار، فأجابه إليه‏.‏‏.‏ فلمَّا عَلِمَ أن حُبَّ الدنيا استمكن من قلبه وَدَّعَه، وقال‏:‏

إِنِّي مُفارِقُكَ *** فَدُمْ على ما أنت عليه، فصار من أمره ومالِه ما صار، وحَمَلَه حُبُّ الدنيا على جَمْعِها، وَحَمَلَه جَمْعُها على حُبِّها، وحَمَلَه حُبِّها على البغي عليهم، وصارت كثرةُ مالِه سَبَبَ هلاكِه، وكم وُعِظَ بِتَرْكِ الفَرَجِ بوجود الدنيا، وبِتَرْكِ الاستمتاع بها‏!‏ وكان لا يأبى إِلاَّ ضلالاً‏.‏

ويقال خَسَفَ اللَّهُ به الأرضَ بدعاِء موسى عليه السلام، فقد كان موسى يقول‏:‏

يا أرضُ خُذِيه‏.‏‏.‏ وبينما كانت الأرض تُخْسَفُ به كان يستعين بموسى بحقِّ القرابة، ولكن موسى كان يقول‏:‏ يا أرضُ خُذِيه‏.‏

وفيما أوحى اللَّهُ إلى موسى‏:‏ لقد ناداك بحقِّ القرابة وأنت تقول‏:‏ يا أرض خذيه‏!‏ وأنا أقول‏:‏ يا عبدُ، نادِني فأنا أقرب منه إليك، ولكنه لم يَقُلْ‏.‏

وفي القصة أنه كان يُخْسَفُ به كل يوم بزيادة معلومة، فلمَّا حَبَسَ اللَّهُ يونسَ في بطن الحوتِ أَمَرَ الحوتَ أن يطوفَ به في البحار لئلا يضيقَ قلبُ يونس، حتى انتهى إلى قارون، فسأله قارونُ عن موسى وحاله، فأوحى الله إلى المَلَك‏:‏

لا تَزِدْ في خَسْفِه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه، ووَصَلَ بَه رَحِمَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

وَعْظُ مَنْ حُرِمَ القبولَ كمثل البَذْرِ في الأرض السَّبِخَة؛ ولذا لم ينفَعْه نُصْحُهم إياه، ولم يكن للقبول في مساغٌ‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا‏}‏‏:‏ ليس النصيبُ من الدنيا جَمْعَها ولا مَنْعَها، إنما النصيبُ منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يُعْقِبُ ندماً، ولا يُوجِبُ في الآخرةِ عقوبةً‏.‏

ويقال النصيبُ من الدنيا ما يَحْمِلُ على طاعته بالنَّفْس، وعلى معرفته بالقلب، وعلى ذِكْرِه باللسان، وعلى مشاهدته بالسِّرِّ‏.‏

‏{‏وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله؛ لأنَّ الكافرَ لا حَسَنَة له‏.‏ والآية تدل على أن لله على الكافر نِعَماً دنيوية‏.‏

والإحسانُ الذي أُمِرَ به إنفاقُ النعمةِ في وجوهِ الطاعةِ والخدمة، ومقابلتُه بالشكران لا بالكفران‏.‏

ويقال الإحسانُ رؤيةُ الفضلِ دون تَوَهُّم الاستحقاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى‏}‏‏.‏

ما لاحَظَ أحدٌ نَفْسَه إلا هَلَكَ بإعجابه‏.‏

ويقال السُّمُّ القاتلُ، والذي يطفئ السراجَ المضيءَ النظرُ إلى النَّفْسِ بعين الإثباتِ، وتَوَهُّمُ أَنَّ منك شيئاً من النفي أو الإثبات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

تمنَّى مَنْ رآه مِمَّن كان في حُبِّ الدنيا ساواه أَنْ يُعْطِيَه اللَّهُ مِثْلَ ما أعطاه‏.‏

أَمَّا مَنْ كان صاحياً عن خمار غفلته، مُتَيَقِّظاً بنور بصيرته فكان موقفُهم‏:‏-

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون‏}‏‏.‏

وبعد أن كان ما كان، وخسفنا به وبداره الأرضَ قال هؤلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

مَنَّ اللَّهُ علينا فلم نَنْجَرِفْ في نَهْجِه، ولم ننخرط في سِلْكِه، وإذاً لَوَقَعَ بنا الهلاكِ‏.‏

أَمَّا المُتَمَنُّون مكانَه فقد نَدِمُوا، وأمّا الراضون بقسمته- سبحانه- فقد سَلِمُوا؛ سَلِمُوا في العاجل إلى أَنْ تَظْهرَ سعادتُهم في الآجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قيل «العلو في الدنيا» أَنْ تَتَوَهَّمَ أَنَّ على البسيطة أحداً هو شرٌّ منك‏.‏

و «الفساد» أن تتحرك لحظِّ نَفْسِك ونصيبك ونصيبك ولو بِنَفَسٍ أو خطوةٍ‏.‏‏.‏ وهذا للأكابر، فأمَّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة ‏{‏نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَّ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأَرْضِ وَلاَ‏}‏ كعُلُوِّ فرعون ‏{‏وَلاَ فَسَاداً‏}‏ كفَسَادِ قارون‏.‏

ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض عُلُوَّاً، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة عُلُوَّاً‏.‏

ويقال ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ‏}‏ للعُبَّادِ والزُّهاد، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

ثواب الحسنةِ في التضعيف، وأمرُ السيئةِ بناؤه على التخفيف‏.‏

والمؤمنُ- وإن كان صاحبَ كبائر- فسيئاتُه تَقْصُرُ في جَنْبِ حسناتِه التي هي إيمانُه ومعرفتُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ‏}‏‏:‏ في الظاهر إلى مكة‏.‏‏.‏ وكان يقول كثيراً‏:‏ «الوطن الوطن»، فَحَقَّقَ اللَّهُ سُؤْلَه‏.‏ وأَمَّا في السِّرِّ والإشارة فإنه ‏{‏فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ‏}‏ أي يَسَّرَ لك قراءةَ القرآن، والمَعَادُ هو الوصفُ الذي كانت عليه روحُك قبل حلول شَجِّك من مُلاَدغات القُرْبِ ومطالعات الحقِّ‏.‏

وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادُّك إلى عين الجمع بالتحقُّق بالحقِّ والفناء عن الخَلْق‏.‏

ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادُّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

ما كنت تؤمِّل مَحَلَّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك، ولا ما أظهرنا عليكَ من أحوال الوجد وحقائق التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

لا يصدنَّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذَّوْبِ والشهود، والإدراك والوجود‏.‏ لا تتدَاخَلَنَّكَ تُهْمةُ التجويز وسؤالاتُ العلماء بما يَدَّعُونَ من أحكام العقول؛ فَمَا يُدْرَكُ في شعاع الشمس لا يَحْكُمُ ببطلانه خفاؤُه في نور السراج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

كلُّ عملٍ باطلٌ إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله‏.‏

كلُّ حيِّ ميت إلا هو، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏:‏ أي مات؛ فكلُّ شيءٍ مُعَدٌّ لجواز الهلاك والعَدَم، ولا يبقى إلا ‏{‏وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ ووَجْهُهُ صفةُ من صفاته لا تستقل إلا به فإذا بقي وجهُه فَمِنْ شرط بقاء وجهه بقاءُ ذاته؛ لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود، ولا يكون هو باقياً إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له؛ ففي بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته‏.‏

وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يُعْرَفُ وجوبُ وجهه إلا بالخبر والنقل دون العقل؛ فخَصَّ الوجه بالذكر لأنَّ في بقاء الوجه بقاء الحقِّ بصفاته‏.‏

سورة العنكبوت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

«الألف» إِشارة إلى تَفَرُّده عن كل غير بوجه الغِنى، وباحتياج كل شيءِ إليه؛ كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرفٍ‏.‏

«واللام» تشير إلى معنى أنه ما من حرفٍ إلا وفي آخره صورة تعويج ما، واللام أقرب الحروف شبهاً بالألف- فهي منتصبة القامة مثلها، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شيء ولكن اللام تتصل بغيرها- فلا جَرَمَ لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام‏.‏

أمّا «الميم» فالإشارة فيه إلى الحرف «مِنْ»؛ فَمِنَ الربِّ الخَلْقُ، ومِنَ العبدِ خدمةُ الحق، ومن الربِّ الطَّوْلُ والفضلُ‏.‏

‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ‏}‏ بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى، وهذا لا يكون، فقيمة كلِّ أحدٍ ببلواه، فَمَنْ زاد قَدْرُ معناه زاد قدر بلواه؛ فعلى النفوس بلاءٌ وهو المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل‏.‏ وعلى القلوب بلاءٌ وهو مطالبتُها بالطلب والفكر الصادق بتطلُّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم‏.‏ وعلى الأرواح بلاءٌ وهو التجرُّدُ عن محبة كلِّ أحدٍ والتفرُّد عن كل سبب، والتباعُد عن كل المساكنةِ لشيءٍ من المخلوقات‏.‏ وعلى الأسرار بلاءٌ وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلِّي إلى أن تصير مُسْتَهْلَكاً فيه‏.‏

ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول في أوان المشاهدات‏.‏ وأشدُّ الفتنِ حفظُ وجود التوحيد لئلا يجري عليك مَكْرٌ في أوقات غَلَبَاتِ شاهد الحقِّ فيظن أنه الحق، ولا يدري أَنَّه من الحقِّ، وأنَّه لا يُقال إِنَّه الحقُّ- وعزيزٌ مَنْ يهتدي إلى ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لم يُخْلِهم من البلاء والمِحَن لِيُظْهِرِ صبرَهم في البلاءِ أو ضدَّه من الضَجَرِ، وشكرهم في الرخاء أو ضدة من الكفر والبَطَرِ‏.‏ وهم في البلاءِ ضروب‏:‏ فمنهم مَنْ يصبر في حال البلاء، ويشكر في حال النَّعماء *** وهذه صفة الصادقين‏.‏ ومنهم مَنْ يضجُّ ولا يصبر في البلاء، ولا يشكر في النعماء‏.‏‏.‏ فهو من الكاذبين‏.‏ ومنهم مَنْ يؤثِر في حال الرخاء أَلاَّ يستمتعَ بالعطاء، ويستروح إلى البلاءِ؛ فَيَسْتَعْذِبَ مقاساةَ الَضُّرِّ والعناء‏.‏‏.‏ وهذا أَجَلُّهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يرتكبون المخالفاتِ ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة‏.‏‏.‏ ساءَ حُكْمُهم‏!‏ فمتى ينجوا منَ العذابِ مَنْ ألقى جلبابَ التُّقى‏؟‏‏!‏

ويقال توهموا أنه لا حَشْرَ ولا نَشْرَ، ولا محاسبة ولا مطالبة‏.‏

ويقال اغتروا بإمهالنا اليومَ، وَتَوَهَّموا أنهم مِنَّا قد أفلتوا، وظنوا أنهم قد أَمِنُوا‏.‏

ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئاتِ أَنْ جرى التقريرُ لهم بالسعادة، وأنَّ ذلك يؤخر حُكْمَنا‏.‏‏.‏ كلا، فلا يشقى مَنْ جَرَتْ قسمتُنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول مَنْ سبق له الحُكْمُ بالشقاوة‏!‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

مَنْ خاف عذابَه يوم الحساب فَسَيلْقى يومَ الحَشْرِ الأمانَ الموعودَ مِنَّا لأهل الخوف اليومَ‏.‏ ومَنْ أَمَّلَ الثوابَ يومَ البعثَ فسوف يرى ثوابَ ما أسلفه من العمل‏.‏ ومَنْ زَجَّى عُمْرَه في رجاء لقائنا فسوف نُبيح له النَّظَرَ إلينا، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة‏.‏

‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لأنين المشتاقين، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بحنين المحبين الوالهين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

مَنْ أَحْسَنَ فنجاة نفسه طلبها، وسعادة حالة حَصَّلَها‏.‏ ومن أساء فعقوبة بنفسه‏.‏ جَلَبَها، وشقاوة جَدِّه اكتسبها‏.‏

ويقال ثوابُ المطيعين إليهم مصروفٌ، وعذابُ العاصين عليهم موقوفٌ‏.‏‏.‏ والحقُّ عزيزٌ لا يلحقه بالوفاق زَيْن، ولا يَمَسُّه من الشِّقاقِ شَيْنٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

مَنْ رَفَعَ إلينا خطوة نال مِنَّا خطوة، ومَنْ تَرَكَ فينا شهوةً وَجَدَ مِنٍَّا صفوة، فنصيبهم من الخيرات موفور، وعملهم في الزلاَّت مغفور‏.‏‏.‏ بذلك أجرينا سُنَّتنا، وهو متناول حُكْمِنا وقضيتنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أَمَرَ اللَّهُ العِبادَ برعاية حقِّ الوالدين تنبيهاً على عظم حق التربية‏.‏ وإذا كانت تربيةُ الوالدين- وهي إِنْ حَسُنَتْ- فإِلى حدٍّ يوجِبُ رعايتهما فما الظنُّ برعاية حق الله تعالى، والإحسانِ العميمِ بالعبد والامتنان القديم الذي خصَّه به مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَُأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

إنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ بالله فإياك أَنْ تطيعَهما، ولكن رُدَّ بِلُطْفٍ، وخالِفْ برفْقٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم، فإن المعهود من سُنَّتِنا إلحاق الشكلِ بشكله، وإجراء المِثْلِ على حُكْمِ مِثْلِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسَِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا باللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

المحنُ تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وهي تَدُلُّ على قِيمَهِم وأقدارهم؛ فَقَدْرُ كلِّ أحد وقيمته يَظْهَرُ عند محنته؛ فَمَنْ كانت محنتُه من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها؛ أو كانت محنته بموت قريبٍ من الناس، أو فَقْد حبيبٍ من الخلْقِ فحقيرٌ قَدْرُه، وكثيرٌ في الناس مثْلُه‏.‏ ومَنْ كانت محنته في الله ولله فعزيزٌ قَدْرُه، وقليلٌ مَنْ كان مثله، فهم في العدد قليلٌ ولكن في القَدْرِ والخَطَرِ جليلٌ‏:‏ وبقدر الوقوف في البلاءِ تظهر جواهرُ الرجال، وتصفو عن الخَبَثِ نفوسُهم‏.‏

والمؤمن مَنْ يَكفُّ الأذى، ويتحمل من الخَلْقِ الأذى، ويتشرب ولا يترشح بغير شكوى ولا إظهار؛ كالأرض يُلْقَى عليها كلٌّ خبيث فتُنْبِتُ كلَّ خضرة وكل نزهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الانتقال الى صفحة القرآن ‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين‏}‏

إذا اشتبكت دموعٌ في خدود *** تَبَيَّنَ مَنْ بكى ممن تباكى

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ضمنوا بما لم يفوا به، وأخلفوا فيما وَعَدُوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئاً، بل زادوا على حَمْل نفوسهم؛ فاحتقبوا وِزْرَ ما عَملوا، وطولبوا بوزْر ما به أَمَرُوا، فضاعَفَ عليهم العقوبة، ولم يصل أحدٌ من جهتهم إلى راحة، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وسيلحق بهؤلاء أَصحاب الدعاوى والمتَشبِّهون بأهل الحقائق‏:‏

مَنْ تحلَّى بغير ما هو فيه *** فَضَح الامتحانُ ما يَدَّعيه

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وهيهات هيهات‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره، وجهلا بحاله، ومُرْية في صدقه، ولم يزدد نوح- عليه السلام- لهم إلاَّ نُصْحاً، وفي الله إلا صبراً‏.‏ ولقد عرَّفه اللَّهُ أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً، وَصَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه‏.‏‏.‏ فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

كَرَّرَ ذَكْرَ إبراهيم في هذا الموضع، وكيف أقام على قومه الحُجَّة، وأرشدهم إلى سَوَاءِ المحجة، ولكنهم أصروا على ما جحدوا، وتعصبوا لِمَا من الأصنام عبدوا، وكادوا لإبراهيم كيداً‏.‏‏.‏ ولكن انقلب ذلك عليهم من الله مكراً بهم واستدراجاً‏.‏ ولم يَنْجَعْ فيهم نُصْحُه، ولا وَجَد منهم مساغاً وَعْظُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

لا يُدْرَى أيهما أقبح‏.‏‏.‏ هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم- فيما تزعمون كذباً- عن هذه الجمادات‏؟‏ وهي لا تملك لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً، ولا تملك لكم خيراً ولا شراً، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك‏.‏

وبيَّنَ أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق فقال‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ‏}‏ لتَصِلوا إلى خير الدارْين‏.‏

وابتغاءُ الرزق من الله إدامةُ الصلاة؛ فإن الصلاةَ استفتاحُ بابِ الرزق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى الله تعالى في استجلاب الرزق‏.‏

وفي الآية تقديمٌ الرزقُ على الأمر بالعبادة؛ لأنه لا يُمْكِنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر؛ فبالقوة يمكنه أداء العبادة، وبالرزق يجد القوة، قالوا‏:‏

إذا المرءُ لم يطلب معاشاً لنفسه *** فمكروهَ ما يلقى يكون جزاؤه

‏{‏وَاشْكُرُواْ لَهُ‏}‏‏:‏ حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

وبالُ التكذيب عائدٌ على المُكَذِّب، وليس على الرسول- بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كي يكون مُبَيِّناً- شيء آخر‏.‏ وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام‏.‏

وفيما حلَّ بالمكذِّبين من العقوبة ما ينبغي أن يكون عِبْرَةً لِمَنْ بعدهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

الذي دَاخَلَهم فيه الشكُّ كان بعث الخَلْق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السَّنةِ بعد تقضِّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي‏.‏ وبَيَّنَ أن جَمْعَ أجزاءِ المكلَّفين بعد انقضاص البِنية كإعادة فصول السنة؛ فكما أن ذلك سائغٌ في قدرته غيرُ مُسْتَنْكَرٍ فكذلك بعثُ الخَلْق‏.‏

وكما في فصول السنة تتكرر أحوالُ العِبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس، ثم زوالها، إلى موالاة الطاعات، ثم حصول الفترة، والعود إلى مثل الحالة الأولى، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة‏.‏‏.‏ كذلك تتكرر عليهم الأحوال‏.‏

وأربابُ القلوبِ تتعاقب أحوالُهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأُنْس‏.‏ ثم في التجلي والسَّتْر، ثم في البقاء والفناء، ثم في السُكْر والصحو‏.‏‏.‏ وأمثال هذا كثير‏.‏ وفي هذا المعنى قوله‏:‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِئ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا‏:‏

كلُّ نَهرٍ فيه ماءٌ قد جَرَى *** فإليه الماءُ يوماً سيعود

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

أجناسُ ما يعذِّبُ به عبادَه وأنواعُ ما يرجم به عباده‏.‏‏.‏ لا نهاية لها ولا حَصْر؛ فَمِنْ ذلك أنه يعذِّب من يشاء بالخذلان، ويرحم من يشاء بالإيمان‏.‏ يعذِّب من يشاء بالجحود والعنود، ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود‏.‏ يعذب من يشاء بالحِرْضِ ويرحم من يشاء بالقناعة‏.‏ يعذِّب من يشاء بتفرقة الهمِّ ويرحم من يشاء بجَمْعِ الهِمَّة‏.‏ يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير‏.‏ يعذب من يشاء بالاختيار من نَفْسِه، ويرحم من يشاء برضاه بحُكْم ربِّه‏.‏ يعذب من يشاء بإعراضة عنه، ويرحم من يشاء بإقباله عليه‏.‏ يعذب من يشاء بأن يَكِلَه ونَفْسَه، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحُسْنِ تولِّيه‏.‏ يعذب من يشاء بحبِّ الدنيا ويمنعها عنه ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبَسْطِها عليه‏.‏ يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة *** وأمثال هذا كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

نُقَلِّب الجملةَ في القبضة، ونُجْري عليهم أحكام التقدير‏:‏ جحدوا أو وَحَّدوا، أقبلوا أم أعرضوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

تعجلت عقوبتهم بأنْ يئسوا من رحمته *** ولا عقوبةَ أشدُّ من هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لمَّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد، والسفاهة والتوبيخ، والله تعالى صرف عنه كَيْدَهم، وكفاه مَكْرَهم، وأفلج عليهم حُجَّته، وأظهر للكافة عجزَهم، وأَخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللَّعْنِ والطردِ، وفنون الهوان والخزْي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

لا تَصِحُّ الهجرةُ إلى الله إلاّ بالتبرِّي- بالكمالِ- بالقلبِ عن غير الله‏.‏ والهجرةُ بالنَّفْسِ يسيرةٌ بالإضافة إلى الهجرة بالقلب- وهي هجرة الخواص؛ وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجَمْعِ‏.‏ والجمعُ بين التعريجِ في أوطان التفرقة والكوْنِ في مشاهد الجَمْعِ مُتنافٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

لمَّا لم يُجِبْ قومُه، وبذل لهم النصح، ولم يدَّخر عنهم شيئاً من الشفقة- حقَّقَ اللَّهُ مرادَه في نَسْلِه، فوهب له أولادَه، وبارك فيهم، وجعل في ذريته الكتابَ، والنبوة، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالُهم للقبول، وأحوالهم للإقبال عليها، ونفوسُهم للقيام بعبادته، وأسرارُهم لمشاهدته، وقلوبهم لمعرفته‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ فِى الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ للدنوِّ والزلفة والتخصيص بالقربة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

لا مَهُم على خصلتهم الشنعاء، وما كانوا يتعاطونه على الله من الاجتراء، وما يُضَيَّعُونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك قلة احترام الشيوخ والأكابر، ومنها التسويف في التوبة، ومنها التفاخر بالزلَّة‏.‏

فما كان جوابُهم إلا استعجالَ العقوبة، فحلَّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

التبس على إبراهيم أمرُهم فظَنَّهم أضيافاً؛ فتكلَّفَ لهم تقديم العجل الحنيذ جرياً على سُنَّتِه في إكرام الضيف‏.‏ فلما أخبروه مقصودَهم من إهلاك قوم لوط تكلَّم من باب لوط *** إلى أن قالوا‏:‏ إنَّا مُنَجُّوه‏.‏ وكَان ذلك دليلاً على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوطٍ- وإِنْ كان بريئاً- لم يكن ظلماً؛ إذ لو كان قبيحاً لما كان إبراهيم عليه السلام- مع وفرة عِلْمِه- يشكل عليه حتى كان يجادل عنه‏.‏ بل لله أن يعذِّب منْ يعذِّب، ويُعَافِي مَنْ يُعَافِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لمَّا أن رآهم لوطٌ ضاق بهم قلبُه لأنه لم يعلم أنهم ملائكةٌ، فخاف عليهم من فساد قومه‏:‏ فكان ضِيقُ قلبه لأَجْلِ الله- سبحانه، فأخبروه بأنهم ملائكة، وأنَّ قومه لن يَصِلُوا إليهم‏.‏ فعند ذلك سَكَنَ قلبُه‏.‏ وزال ضيقُ صَدْرِه‏.‏

ويقال أقربُ ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدَّ عليه البلاءُ؛ فعند ذلك يكون زوال البلاء، لأنه يصير مُضْطّراً، واللَّهُ سبحانه وَعََدَ المضطرين وشيك الإجابة‏.‏ كذلك كان لوط في تلك الليلة، فقد ضاق بهم ذَرْعاً ثم لم يلبث أَنْ وَجَدَ الخلاصَ من ضيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

فَمْنَ أراد الاعتبارَ فله في قصتها عِبْرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏

ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون، وقصة قارون‏.‏‏.‏ وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ، وسلك مسلكَهم، ولم يَقْبَلوا النصحَ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم، ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

العنكبوب يتخذ لنفسه بيتاً، ولكن كلما زاد نسجاً في بيته ازداد بُعْداً في الخروج منه؛ فهو يبني ولكن على نفسه يبني *** كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجني‏.‏

وبيتُ العنكبوتِ أكثره في الزوايا من الجدران، كذلك الكافر أمره على التّقِيّةِ والكتمان، وأمَّا المؤمِن فظاهِرُ المعاملةِ، لا ستر ولا يُدْخِمس‏.‏

وبيتُ العنكبوت أوهنُ البيوت لأنه بلا أساسٍ ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أَدْوَن دَفْع‏.‏‏.‏ كذلك الكافر؛ لا أصلَ لشأنه، ولا أساسَ لبنيانه، يرى شيئاً ولكن بالتخييل، فأمَّاً في التحقيق‏.‏‏.‏ فَلاَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

الكلُّ يشتركون في سماع الأمثال، ولكن لا يصغي إليها مَنْ كان نَفُورَ القلبِ، كنودَ الحالِ، متعوداً الكسلَ، مُعَرَّجاً في أوطان الفَشَلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏بِالْحَقِّ‏}‏‏:‏ أي بالقول الحق والأمر الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر، أي على معنى ينبغي للمؤمن أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏ أي ينبغي للمؤمن أن يتوكل على الله، فإن قُدِّرَ أن واحداً منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الإيمان- كذلك من لم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة‏.‏

ويقال بل الصلاةُ الحقيقية ما تكون ناهيةً لصاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ فإن لم يكن من العبد انتهاءٌ فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل، ولكنه يُصِرًّ ولا يطيع تلك الخواطر‏.‏

ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر‏.‏ فإن كان- وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها‏.‏

ويقال الفحشاء هي الدنيا، والمنكر هو النّفْس‏.‏

ويقال الفحشاء هي المعاصي، والمنكر هو الحظوظ‏.‏

ويقال الفحشاء الأعمال، والمنكر حسبانُ النجاة بها، وقيل ملاحظتُه الأعواض عليها، والسرور والفرح بمدح الناس لها‏.‏

ويقال الفحشاء رؤيتها، والمنكر طلب العِوض عليها‏.‏

‏{‏وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏‏:‏ ذكر الله أكبر من ذكر المخلوقين؛ لأن ذكره قديم وذكر الخلْق مُحْدَث‏.‏

ويقال ذكر العبد لله أكبر من ذكره للأَشياء الأخرى، لأن ذكره لله طاعة، وذكره لغيره لا يكون طاعة‏.‏

ويقال ولذِكْرُ اللَّهِ لَك أكبرُ من ذكرْك له‏.‏

ويقال ذكْرهُ لك بالسعادة أكبرُ من ذكْرك له بالعبادة‏.‏

ويقال ذكر الله أكبر من أن تبقى معه وحشة‏.‏

ويقال ذكر الله أكبر من أن يُبْقى للذاكر معه ذِكْر مخلوق‏.‏

ويقال ذكر الله أبر من أن يُبْقى للزّلةِ معلوماً أو مرسوماً‏.‏

ويقال ذكر الله أكبر من أن يعيش أحدٌ من المخلوقين بغيره‏.‏

ويقال ولذكر الله أكبر من أن يُبْقَى معه للفحشاء والمنكر سلطاناً؛ فلِحُرمه ذكره زَلاَّتُ الذاكر مغفورةٌ، وعيوبه مستورةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ينبغي أن يكون منك للخصم تبيين، وفي خطابك تليين، وفي قبول الحق إنصاف، واعتقاد النصرة- لما رآه صحيحاً- بالحجة، وتَرْك الميل إلى الشيء بالهوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

يعني أنهم على أنواع‏:‏ فمرحوم نظرْنا إليه بالعناية، ومحرومٌ وسمناه بالشقاوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

أي تَجَرَّد قلبك عن المعلومات، وتقدّس سرّك عن المرسومات، فصادَفك من غير ممازجة طبْعٍ ومشاركةِ كَسْبٍ وتكلف بشرية، فلما خلا قلبك وسرُّك عن كل معلومٍ ومرسوم ورَد عليك خطابُنا وتفهيمنا مقرونٍ بهما ما ليس مِنَّا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قلوب الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سِرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق قلوبهم، وكلُّ شيء يطلبُ من موطنه ومحله؛ فالدرُّ يُطلبُ من الصدف لأنّ ذلك مسكنه، والشمس تطلبُ من البروج لأنها مطلعها، والشهد يُطلْبُ من النّحل لأنه عشُه‏.‏ كذلك المعرفة تُطْلَبُ من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

خفَيَتْ عليهم حالتُكَ- يا محمد- فطالبوكَ بإقامة الشواهد، وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلآَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ‏}‏ أَوَ يَكْفِهم ما أوضحنا عليكَ من السبيل، وأَلَحْنا لكَ من الدليل؛ يُتْلَى عليهم ذلك، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشيءٍ من مثله‏؟‏ هذا هو الجحود وغاية الكُنود‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

أنا على حقِّ واللَّهُ- سبحانه- يعلمه، وأنتم لستم على حق والله يعلمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

لولا أني ضربْتُ لكلِّ شيءٍ أَجَلاً لَعجَّلْتُ لهم ذلك، ولَيَأتِيَنَّهم العذابُ- حين يأتيهم- بغتةً وفجأةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

وإذا أحاطت بهم في جهنم سرادقاتُ العذاب فلا صريح لهم، كذلك- اليومَ- مَنْ أحاط به العذابُ؛ مِنْ فوقه اللَّعنُ ومن تحته الخَسْفُ، ومن حوله الخِزْيُ، ويُلْبَسُ لباسَ الخذلان، ويوسم بكيِّ الحرمان، ويُسْقَى شرابَ القنوط، ويُتَوَّجُ بتاج الخيبة، ويُقَّيُّدُ بقيد السُّخط، ويُغَلِّ بغُلِّ العداوة، فهُمْ يُسْحَبون في جهنم الفراق حُكْماً، إلى أن يُلْقَوْا في جحيم الاحتراق عيناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الدنيا أوسعُ رقعةً من أَن يضيق بمريدٍ مكانٌ، فإذا نَبَا به منزلٌ- لوجهٍ من الوجوه- إمَّا لمعلومٍ حصل، أو لقبولٍ من الناس، أو جاهٍ، أو لعلاقةٍ أو لقريبٍ أو لِبَلاءِ ضِدٍّ، أو لوجهٍ من الوجوه الضارة *** فسبيلُه أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره، كما قالوا‏:‏

وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حَرِيَّاً *** أنْ أُرى غيرَ مُصْبِح حيثُ أُمْسِي

وكذلك العارف إذا لم يوافق وقَتَه مكانٌ انتقل إلى غيره من الأماكن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

إذا كان الأمرُ كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور؛ فسبيلُ المؤمن أن يوطِّن نفسَه على الخروج مستعداً له، ثم إذا لم يحصل الأَجَلُ فلا يستعجل، وإذا حضر فلا يستثقل، ويكون بحُكْمِ الوقت، كما قالوا‏:‏

لو قال لي مُتْ مِتُّ سمعاً وطاعةً *** وقلتُ لداعي الموت‏:‏ أهلاً ومرحبا

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

هم- اليومَ- في غُرَفِ معارفهم على أَسِرَّةِ وَصْلِهم، مُتَوُّجُون بتيجان سيادتهم، يُسْقَوْن كاساتٍ الوَجْدِ، ويَجْبُرُون في جِنانِ القُرْب، وعداً كما قال‏:‏-

‏{‏الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏‏.‏

والصبرُ الوقوفُ مع الله بشرط سقوط الفكرة‏.‏

الصبرُ العكوفُ في أوطان الوفاء، الصبر حَبْسُ النَّفْسِ على فِطامها‏.‏

الصبر تجرُّعُ كاساتِ التقدير من غير تعبيس‏.‏

الصبر صفة توجب معيَّةَ الحقِّ *** وأَعْزِزْ بها‏!‏

وأولُ الصبرِ تصبُّرٌ بتكلفٍ، ثم صبرٌ بسهولة، ثم اصطبارٌ وهو ممزوج بالراحة، ثم تحقُّقٌ بوصف الرضا؛ فيصير العبدُ فيه محمولاً بعد أن كان مُتَحَمّلاً‏.‏

والتوكلُ انتظارٌ مع استبشار، والتوكلُ سكونُ السِّرِّ إلى الله، التوكلُ استقلالٌ بحقيقة التوكل؛ فلا تتبرَّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك‏.‏ التوكل إعراضُ القلب عن غير الرَّب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا‏}‏ أي لا تدخره، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فاللَّهُ يرزقه من غير مقاساة تعبٍ منه‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏لاَّ تَحِْمِلُ رِزْقَهَا‏}‏ المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم، وليس لها بيت تجمع فيه القوت، وليس لها خازن ولا وكيل‏.‏‏.‏ الله يرزقها وإياكم‏.‏

ويقال إرادةُ اللَّهِ في أن يستبقيكَ ولا يقبض رُوحَك أقوى وأتمُّ وأكبرُ من تَعَنَّيك لأَجْلِ بقائك‏.‏‏.‏ فلا ينبغي أَنْ يكونَ اهتمامُكَ بسبب عَيْشِك أتمَّ وأكبرَ من تدبير صانعك لأجل بقائك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

إذا سُئِلوا عن الخالق أقروا بالله، وإذا سُئِلوا عن الرازق لم يستقروا مع الله‏.‏‏.‏‏.‏

هذه مناقَضَةٌ ظاهرة‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

الرزق على قسمين‏:‏ رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام، والناسُ فيهم مرزوقٌ ومُرَفّةٌ عليه، وفيهم مرزوق ولكنْ مْضَيَّقٌ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

كما عَلِموا أَنَّ حياةِ الأرضِ بعد موتها بالمطر من قِبَل الله فليعلموا أَنَّ حياةَ النفوسِ بعد موتها- عند النّشْرِ والبعث- بقدرة الله‏.‏ وكما علموا ذلك فليعلموا أَنَّ حياةَ الأوقات بعد نفرتها، وحياة القلوب بعد فترتها *** بماء الرحمة بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

الدنيا الأحلام- وعند الخروج منها انتباهٌ من النوم‏.‏ والآخرة هنالك العيش بكماله، والتخلص- من الوحشة- بتمامه ودوامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

الإخلاصُ تفريغُ القلب عن الكلّ، والثقةُ بأن الإخلاص ليس إلا به- سبحانه، والتحقق بأنه لا يستكبر حالاً في المحمودات ولا في المذمومات، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين‏.‏ وإذا توالت عليهم الضرورات، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا لله متضرعين فإذا كشف الضُّرَّ عنهم عادوا إلى الغفلة، ونَسُوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل‏:‏

إذا ارعوى عاد إلى جهله *** كذي الضنى عاد إلى نُكْسِه

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

مَنَّ عليهم بدَفْعٍ المحن عنهم وكَوْنِ الحَرَمِ آمناً‏.‏ وذَكَّرَهم عظيمَ إحسانه عليهم، ثم إعراضهم عن شكر ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

أي لا أحدَ أشدُّ ظلماً ممن افترى على الله الكذب، وعَدَلَ عن الصدق، وآثَرَ البهتانَ ولم يتصرف بالتحقق، أولئك هم السُّقّاطُ في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الذين زَيَّنُوا ظواهرَهم بالمجاهدات حَسُنَتْ سرائرُهم بالمشاهدات‏.‏ الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف‏.‏ الذين قاسوا فينا التعبَ من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات‏.‏

ويقال الجهاد فيه‏:‏ أولاً بترك المحرَّمات، ثم بترك الشُّبُهات، ثم بترك الفضلات، ثم بقطع العلاقات، والتنقِّي من الشواغل في جميع الأوقات‏.‏

ويقال بحفظ الحواسُ لله، وبِعَدُ الأنفاس مع الله‏.‏

سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ الإشارة فى «الألف» إلى أنه ألِفَ صُحْبتنَا مَنْ عَرف عظمتنا‏.‏ وأنّه أَلف بلاءنا مَنْ عَرَفَ كبرياءنا‏.‏

والإشارة فى «اللام» إلى أنه لزمَ بابنا مَنْ ذاق محابّنا، ولزمَ بساطنَا مَنْ شهد جمالنَا‏.‏

والإشارة فى «الميم» إلى أَنه مُكِّنَ منْ قُرْبنَا مَنْ قام على خدمتنا، ومات على وفائنا مَنْ تحقق بولائنا‏.‏

قوله ‏{‏غُلِبَتِ الرُّومُ‏}‏‏:‏ سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم_ وإن كان الكفر يجمعهم_ إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الأية‏.‏‏.‏ فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحُزنُه واهتمامه لدين الله‏؟‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏قَبْلُ‏}‏ إذا أُطْلق انتظم الأزل، «وبَعْدُ» إذا أطلق دلّ على الأبد؛ فالمعنى الأمر الأزلىُّ لله، والأمر الأبدىُّ للّهِ لأنَّ الرَّبِّ الأزلىّ والسَّيِّدَ الأبدىّ اللَّهُ‏.‏

لله الأمرُ يومَ العرفان، ولله الأمرُ يومَ الغفران‏.‏

لله الأمرُ حين القسمة ولا حين، ولله الأمرُ عند النعمة وليس أى معين‏.‏

ويقال‏:‏ لى الأمرُ ‏{‏مِن قََبْلُ‏}‏ وقد علمتُ ما تفعلون، فلا يمنعنى أحدٌ من تحقيق عرفانكم، ولي الأمر ‏{‏مِّن بَعْدِ‏}‏ وقد رأيتُ ما فعلتم، فلا يمنعنى أحدٌ من غفرانكم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ‏}‏ بتحقيق ودِّكم، والله الامر من بعد بحفظ عهدكم‏:‏

إني _على جفواتها_ وبربِّها *** وبكلِّ مُتصل بها مُتوسلِ

‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ‏}‏‏:‏

اليومَ إرجافُ السرور وإنما *** يومَ اللِّقاء حقيقةُ الإرجاف

اليومَ ترحٌ وغداً فرح، اليوم عَبرة وغداً حَبرة، اليوم أسف وغداً لطف، اليوم بكاء وغداً لقاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الكريمُ لا يُخلفُ وعده لا سيما والصدقُ نعته‏.‏

يقول المؤمنون‏:‏ مِنا يومَ الميثاق وعدٌ بالطاعة، ومنه ذلك اليومَ وعدٌ بالجنة، فإن وَقع فى وعدنا تقصيرٌ لا يقع فى وعده قُصورٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

استغراقُهم فى الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم فى تعليق القلب بها‏.‏‏.‏ مَنَعَهم عن العلم بالآخرة‏.‏ وقيمةُ كلِّ امرئ عِلمه بالله؛ ففى الأثر عن عليِّ _رضى الله عنه_ أنه قال؛ أهل الدنيا عَلَى غفلةٍ من الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

إنَّ مَنْ نَظَرَ حقَّ النظر، ووَضَعَ النظر موضعَه أثمر له العلم واجباً، فإذا استبصر بنور اليقين أحكامَ الغائبات، وعَلِمَ موعوده الصادق فى المستأنف- نجا عن كَدِّ التردد والتجويز فسبيلُ مَنْ صحا عقلُه ألا يجنحَ إلى التقصير فيما به كمال سكونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

سَيْرُ النفوسِ فى أقطار الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوبِ بِجَولاَنِ الفِكْرِ فى جميع المخلوقات، وغايته الظَّفَرُ بحقائق العلوم التى توجِبُ ثلج الصدر-ثم تلك العلوم على درجات‏.‏ وسير الأرواح فى ميادين الغيب بنعت حرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصولُ إلى محلِّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة‏.‏ وسير الأشرار بالترقى عن الحِدْثان بأَسْرِها، والتحقق أولاً بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمَّا سِوى الحقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

مَنْ زَرَعَ الشوكَ لم يحصُدْ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيشَ لم يقطف الثمار، ومَنْ سَلَكَ طريق الغىّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يبدأ الخلق على ما يشاء، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

شهودِهم ما جحدوه فى الدنيا عياناً، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعاً هو الذى يفتت أكبادهم، وبه تتمُّ محنتُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تغلب العداوةُ مِنْ بعضٍ على بعضٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

فريقٌ منهم أهل الوصلة، وفريق هم أهل الفرقة‏.‏ فريق للجنة والمِنَّة‏.‏ وفريقٌ للعذاب والمحنة‏.‏ فريقٌ فى السعير‏.‏ وفريقٌ فى السرور‏.‏ فريقٌ فى الثواب‏.‏ وفريقٌ فى العذاب‏.‏ فريقٌ فى الفراقِ‏.‏ وفريقٌ فى التلاقي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

فهم فى رياضٍ وغياضٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

فهم فى بوارٍ وهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

مَنْ كان صباحُه لله بُورِكَ له فى يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له فى ليله‏:‏

وإنَّ صَبَاحً نلتقي في مسائه *** صَبَاحٌ على قلبِ الغريبِ حبيبُ

شتّان بين عبدٍ صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحة مفتتح بعزيز قربته‏!‏

ويقال الآية تتضمن الأَمر بتسبيحه فى هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس، وإرادةَ الحقِّ من أوليائه بأَنْ يجددوا العهدَ فى اليوم والليلة خمْسَ مراتٍ؛ فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ‏}‏‏:‏ الطيرَ من البيض، والحيوان من النُّطفةِ‏.‏

‏{‏وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ‏}‏‏:‏ البيض من الطير، والنطفة من الحيوان‏.‏

والمؤمنَ من الكافِرَ والكافِرَ من المؤمن‏.‏

ويُظْهِرُ أوقاتاً من بين أوقات؛ كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض‏.‏

‏{‏وَيُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتَهَا‏}‏‏:‏ يحييها بالمطر، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء؛ كذلك يوم النشور يحيي الخلْقَ بعد الموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

خَلَقَ آدمَ من التراب، ثم من آدم الذُّرِّيَة‏.‏ فذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم‏.‏

ويقال الأصل تُرْبة ولكن العِبْرَة بالتربية لا بالتربة، القيمةُ لما مِنْه لا لأعيان المخلوقات‏.‏ اصطفى واختار الكعبة فهي أفضل من الجنة؛ الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر‏!‏ ولكن البيت مختارُه وهذا المختار حجر‏!‏ واختار الإنسانَ، وهذا المختار مَدَرٌ‏!‏ والغنىُّ غنىٌّ لِذَاتِه، غنىٌّ عن كلِّ غيرٍ من رَسْم وأثر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، ورَبَطَ الشكلَ بالشكلِ، وجعل سكونَ البعضِ إلى البعض، ولكنَّ ذلك للأشباح والصُوَر، أمَّا الأرواح فصُحْبَتُها للأشباح كرهٌ لا طوعٌ‏.‏ وأمَّا الأسرار فمُعْتَقَةٌ لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

خَلَقَ السماواتِ فى علوِّها والأرضَ فى دنوِّها؛ هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها‏.‏ وهذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومَدَرِها‏.‏

ومن آياته اختلافُ لغات أهل الأرض، واختلافُ تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء‏.‏ وإنَّ اختصاصَ كلِّ شئ منها بُحكم-شاهدُ عَدلٍ، ودليلُ صِدُقٍ على أنها تناجى أفكار المتيقظين، وتنادي على على أنفسها‏.‏‏.‏ أنها جميعها من تقدير العزيز العليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

غَلَبُه النومِ بغيرِ اختيارِ صاحبه ثم انتباهُه مِنْ غير اكتسابٍ له بِوُسْعِه يدلُّ على موته وبَعْثِهِ بعد ذلك وقتَ نشوره‏.‏ ثم فى حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه، وعلى أوصافٍ كثيرة أمره‏.‏‏.‏ كذلك الميت فى قبره‏.‏ اللَّهُ أعلمُ كيف حاله فى أمره، وما يلقاه من خيره وشرّه، ونفعه وضرّه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يُلْقِي في القلوب من الرجاءِ والتوقع فى الأمور، ثم يختلف بهم الحال؛ فمِنْ عبدٍ يحصلُ مقصودُه‏.‏ ومِنْ آخر لا يتفق مرادُه‏.‏

والأحوال اللطيفة كالبروق، وقالوا‏:‏ إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار، فاللوائح فى أوائل العلوم، واللوامع من حيث الفهوم، والطوالع من حيث المعارف، والشوارق من حيث التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يُفْنِي هذه الأدوار، ويُغَيِّر هذه الأطوار، ويبدِّل أحوالاُ غير هذه الأَحوال؛ إماتةٌ ثم إحياءٌ، وإعادةٌ وقبلها إبداءٌ وقبرٌ ثم نَشْر، ومعاتبةٌ فى القبر ثم محاسبةٌ بعد النَّشْرِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

له ذلك مِلْكاً، ومنه تلك الأشياء بَدْءاً، وبه إيجاداً، وإليه رجوعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أي في ظنَّكم وتقديركم‏.‏

وفي الحقيقة السهولةُ والوعورةُ على الحقِّ لا تجوز‏.‏

‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى‏}‏‏:‏ له الصفةُ العليا فى الوجود بحقِّ القِدَم، وفي الجود بنعت الكَرَم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النصرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلُّق، وفي الحكم بوجوب التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية بحكم النفوذ، وفى الجبروت بعين العزِّ والجلال، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أي إذا كان لكم مماليك لا تَرْضَوْن بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون بكلِّ وجه-إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فَمَا تقولون في الذي لم يَزَلْ، ولا يزال كما لم يزل‏؟‏

هل يجوز أن يُقَدَّر َ في وصفه أن يُسَاوِيَه عبيدُه‏؟‏وهل يجوز أن يكون مملوكُه شريكَه‏؟‏ تعالى اللَّهُ عن ذلك علواً كبيراً‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

أشدُّ الظلمِ متابعةُ الهوى، لأنه قريبٌ من الشِّرْكِ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فَمَنْ اتَّبَعَ هواه خالف رضا مولاه؛ فهو بوضعه الشئ غيرَ موضعه صار ظالماً، كما أَنَّ العاصيَ بوضعه المعصيةَ موضعَ الطاعةِ ظالمٌ‏.‏‏.‏ كذلك هذا بمتابعة هواه بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار فى الظلم متمادياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

أخْلِصْ قَصْدَك إلى الله، واحفَظْ عهدك مع الله، وأَفرِدْ عملَكَ فى سكناتِك وحركاتِك وجميع تصرفاتِك لله‏.‏

‏{‏حَنِيفاً‏}‏‏:‏ أى مستقيماً فى دينه، مائلاً إليه، مُغْرَضاً عن غيره، والزَمْ ‏{‏فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ أي أثْبَتَهُم عليها قبل أن يُوجَدَ منهم فِعْلٌ ولا كَسْب، ولا شِرْكٌ ولا كُفْر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان‏.‏ فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أُمِرْتَ به، واحذر ما نُهِيتَ عنه‏.‏

فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله‏:‏ ‏{‏فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ أي اعْرَفْ واعْلَمْ أن فطرة الله التي فطر الناس عليها‏:‏ تَجَرُّدُهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون- وإن كان هذا أيضاً بتقدير الله‏.‏

وعلى هذا تكون ‏{‏فِطْرَتَ‏}‏ الله منصوبة بإضمار اعْلَمْ- كما قلنا‏.‏

سبحانه فَطَرَ كلَّ أحدٍ على ما عَلِمَ أنه يكون فى السعادة أو الشقاوة، ولا تبديلَ لحُكْمه، ولا تحويلَ لما عليه فَطَرَه‏.‏ فمَنْ عَلِمَ أنه يكون سعيداً أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخَلَقَه في حُْكمه سعيداً‏.‏ ومَنْ عَلِمَ شقاوته أراد أن يكون شقياً وأخبر عن شقاوته وخَلَقَه في حكمه شقياً‏.‏‏.‏ ولا تبديل لحُكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقُّ الصحيح‏.‏